مقدمة أو فإشارةبقلم: عصام عيسى رجبمواصلةً لمشروعه الجادِّ في ترجمة آثار كافكا مع تفسيراتها* إلى العربية، ينحو "إبراهيم وطفي" هذه المرّة منحىً آخرَ في الكتاب الذي أعدّه أخيراً "كافكا في النقد العربي (البداية)، 1994 – 2005" والصادرة طبعته الأولى في سبتمبر من هذا العام (2006 م).
الكتاب عبارة عن مجموعة مقالات (إثنتين وأربعين مقالة، مع ملاحظة أنّ من بين المقالات قصتان قصيرتان، كما أنّ المقالة رقم إحدى وأربعين، وكما سيأتي لاحقاً، هي مجموعة شهادات عن كافكا وردت جميعها في جريدة "أخبار الأدب") لعدد من الكتّاب يقارب عدد المقالات (للكُتّاب: السيّد حسين وناصر ونوس وفرج العشة مقالتان لكل كاتب، وهناك كاتب وحيد هو إبراهيم العريس له ثلاث مقالات، أما باقي الكتّاب فلكلٍّ مقالةٌ واحِدة).
ومن بين مقالات الكتاب هناك خمسٌ فقط لكاتِبات هن: أنيسة عبود وحليمة حطّاب وجمانة حدّاد وماري طوق و فرح جبر، الأولى مِن سوريا والثانية من مصر والثلاثة الأخيرات مِن لبنان.
وتمتد الفترة الزمنية التي نُشرت فيها مقالات الكتاب، في الصحف ومواقع الإنترنت العربية، كما أشار "وطفي" في غلاف الكتاب، من سنة 1994 م إلى 2005 م. مثلما جاءت في الغلاف كلمة (البداية) في إشارةٍ ربما إلى مقالات أخرى قد تصدر في كتاب ثانٍ فيما بعد.
يقول "وطفي" في مقدمته التي أسماها "إشارة": ما جاء في هذا الكتاب يمثل بداية المرحلة الثانية في تلقي آثار كافكا في البلاد العربية. وهو يضم المقالات التي عثرت عليها، بمجهود شخصي، في الصحف العربية، الورقية والإلكترونية، الصادرة بين عامي 1994 و 2005.
وكان "وطفي" قد ذكر في بداية "إشارته" إلى ما أسماه: المرحلة الأولى مِن وصول كافكا إلى القارئ العربي وتمتد بين عامي 1947 و 1994، وقد وضع أسسها وحدّد معالمها اثنان هما طه حسين (الذي نشر أول مقالة بالعربية عن كافكا في مجلة "الكاتب") وسعدي يوسف.
ولم يشأ "وطفي" أن يحول بين المقالات والقارئ، بل تركها تحكي بلسان كلماتِها وأفكارِها، فيقول: تحوي هذه المقالات بعض "المعلومات" الخاطئة، لم يجر حذفها ولا الرد عليها، إذ سيكتشفها القارئ بنفسه. وقد جاءت نقلاً عن مصادر غير رصينة، أو تأليفاً متعمداً.
وبهذا يترك "وطفي" للقارئ مهمّة اكتشاف "المعلومات" الخاطئة التي أشار إليها أعلاه، فكأنّه يقول للقارئ: ليس عليك أن تكون متلقّياً لما تقرأ فحسب، بل عليك أن تستخدم معرفتك وحاستك النقدية لتميّز الخطأ والصواب الذي احتوته المقالات.
وفي ظنّي أنّ الطريقَ لهكذا قراءة واحدٌ من اثنين: أمّا أن يكون القارئ قد قرأ مِن قبل آثار كافكا أو بعضاً منها، أو أن يدع مقالات الكتاب تجادل بعضها بعضاً ليستبين له من هذا الجدل
تلك "المعلومات" الخاطئة التي نبّه إليها "وطفي" في "إشارته"، ولكن مِن دون أن يبيِّنها.
وربّما يكون القارئُ الذي قرأ آثار كافكا أو دراسات عنها بلغة أخرى غير العربية أحسنَ حظّاً هنا كونه يستطيع أن يقارن ما قرأه هناك بما يجده هنا في هذي المقالات العربية الحرف واللسان.
وإن كُنّا نتمنّى لو أبانَ وطفي، وهو الأكثر دراية بهكذا "معلومات" خاطئة، تلكم الأخطاء حتى يتبيّنها القارئ، وتتكوّن لديه بذا معلومات أخرى صحيحة ترسم صورةً صحيحةً لكافكا وآثاره.
الحُكْم
في المقالتين الأوليين: "تقديم جديد بالعربية لكافكا" للسيّد حسين و "مشروع لإعادة ترجمة كافكا بأسلوب جديد" لناصر ونوس، يتناول الكاتبان قصة "الحُكْم" وترجمة "وطفي" لها، فيقول السيد حسين: .... فقد ضم (الكتاب) ترجمة لقصة قصيرة وهي لـ [فرانتس] كافكا وهي (الحكم) التي غطت 20 صفحة من الكتاب الذي يضم ما يزيد عن مائتي صفحة من القطع الصغير، بينما امتلأت الصفحات الباقي وهي 180 صفحة بتحليل للقصة وأهميتها وبنيتها وهيكليتها ووضعها في مجموع آثار كافكا ......"
ومثله تعرّض ناصر ونوس لترجمة "وطفي" لـ (الحكم) والدراسات التي تناولتها بالتحليل و التفسير، فكتب: .... لا يسعنا إلا أن نقول، دون مبالغة، إن الثقافة العربية محظوظة أن يأتي مترجم مثل ابراهيم وطفي ليترجم إليها أعمال كافكا، خاصة وأنه (المترجم) يأتي بطريقة جديدة في تقديم كاتب عالمي إلى القارئ العربي حيث أن لا يكتفي بترجمة عمل لكافكا ونشره وإنما يتبعه بدراسة أو مجموعة دراسات عنه وعن كاتبه ...."
رسالة إلى الوالد
تتناول عشر مقالات (من الثالثة وحتى الثانية عشر) رسالة كافكا الشهيرة إلى أبيه والمسمّاة (رسالة إلى الوالد) ...... في دراسته بعنوان "منذ بدء تاريخ البشرية" كتب فيلهم أمريش: "كتب فرانز كافكا رسالة إلى الوالد عندما كان يبلغ السادسة والثلاثين من عمره، وقبل وفاته بنحو خمسة أعوم. كان يقف أنذاك، عام 1919، في ذروة إبداعه الأدبي، إذ كان قد كتب قصص الحكم والانمساخ وفي مستعمرة العقاب ومجموعة القصص القصيرة التي صدرت في العام نفسه بعنوان طبيب ريفي، كما كان قد كتب روايتي المفقود والمحاكمة ونصوصاً أخرى. لذا يبدو مما يثير العجب أكثر أن يقوم كافكا في مثل هذا الوقت، الذي كان يتمتّع فيه بقدرة عالية على الإنتاج الأدبي، بمثل هذه المحاكمة الرهيبة مع والده ......"
ولننتقل إلى بعض المقالات التي تناولت (رسالة إلى الوالد)، يقول ناصر ونوّس في مقالته "فرانز كافكا وسيرة معاناته مع والده": ..... وفي "رسالة إلى الوالد" يتابع فرانز كافكا موضوعة العلاقة مع الأب. وهي الموضوعة التي بدأها مع قصة "الحكم". كتب كافكا هذه الرسالة عندما كان عمره 36 عاماً، وبعد كتابة "الحُكم" بسبعة أعوام. وتعتبر بمثابة تصفية حساب نهائية لعلاقته مع والده ...."
في مقالته "الهوية الممزقة"، كتب فرج العشة: تمثل "رسالة إلى الوالد" سيرة كافكا الشخصية، واعترافه الفذ بالمسكوت عنه مِن عالمه الخاص الحميم المخفي، وتعتبر مفتاح الولوج إلى "قلعة" عالمه الشعري السحري. إنها مركز كل ما كتب مِن قصص وروايات ويوميّات ورسائل، كما هو والده مركز حياته نفساً نفساً، وهاجساً هاجساً، نقطة الصفر في الحياة والكتابة، ألم يكتب إليه: "كتابتي كانت تدور حولك. والحقّ كنت أشكو فيها ما كنت لا أستطيع أن أشكوه على صدرك"....
ويكتب علي ديوب في مقالته "كافكا في "رسالة إلى الوالد": تفكيك للسلطة .. ودفاع ضد القمع": .... ترى هل يحالفنا الصواب لو اعتبرنا الخوف موضوع أدب كافكا مفتاحه لفهم الواقع؟ الخوف في الانمساخ، الخوف في الحكم، الخوف في الرسالة .. مفتاح للقبض على الحرية .."
.... لقد أمضى كافكا طفولة انعزالية تميّزت بانعدام الثقة بالنفس وبالخوف من الفشل. وطوال حياته كان واقعاً تحت نفوذ والده المتسلط والناجح. وكان يفهم عمله الأدبي على أنه محاولة هروب من الوالد.
وخير ما يعبّر عن علاقة كافكا بوالده هو رسالة إلى الولد.
وهذه الرسالة هي وثيقة عن سيرة حياة قبل أن تكون نصاً ذا طابع أدبي بحت، لكن النقّاد أعطوها صفة أدبية.
....................
....................
وتمثل رسالة إلى الوالد تصفية حساب عامة، لا تعرف الرحمة، ليس مع والده فحسب، وإنما مع نفسه أكثر. وهي، وإن لم تصل إلى المرسلة إليه، ظلّت ذات أهمية بالغة لكاتبها، وطبعها بيده على الآلة الكاتبة (باستثناء الورقة الأخيرة).
...................
...................
لقد كُتبت رسالة إلى الوالد بالقرب من براغ في العقد الثاني من القرن العشرين. وطُبِعت لأول مرة في ألمانيا في منتصف القرن. وطُبِعت ودرست بالشكل الجدير بها، أخيراً، في ألمانيا في العقد الأخير من هذا القرن (أي العشرين). وهنا يستقبلها القارئ العربي، كاملة لأول مرة. ما علاقة مجتمع براغ آنذاك بالمجتمع الألماني والمجتمع العربي الآن؟
إنّ سُلطة الأب هي، في أي مجتمع، السُلطة الأولى – بين ثلاث سُلطات – التي ينبغي الانعتاق نيرها، إذا أراد المرء أن يكون إنساناً حُرّاً، مستقِلاً، يقرر مصير نفسه بنفسه طبقاً لطبيعته وميوله وأهدافه .....
ملف "اخبار الأدب": كافكا، متاهة الواق وواقع المتاهة
ثلاث مقالات (من التاسعة والثلاثين إلى الواحد والأربعين) مُختارة مِن العدد الخاص مِن "أخبار الأدب" وهو العدد رقم 625 بتاريخ 3 يوليو 2005 م، وعنوانه "كافكا: متاهة الواقع وواقع المتاهة". ففي مقالته "عن كافكا" يقول جمال الغيطاني: .... رغم غرابة عالمه وكابوسيته يبدو مألوفاً، وكأننا جزء منه، يستيقظ بطل المسخ ليجد نفسه وقد تحول إلى حشرة ضخمة، ورغم غرابة التحول إلا أن هذا يبدو منطقياً في إطار العمل الفني، بل إننا مِن خلال التفاصيل الدقيقة التي يوردها المؤلف ولكن في بنية مغايرة للمألوف يشعر كلٌّ منّا أنه تلك الحشرة، التفاصيل شديدة الواقعية، إنها مفردات واقعنا، غير أنها مُصاغة في سياق مغاير يخلق واقعاً خاصّاً، غريباً، لكنه جد مألوف لنا، شيئاً فشيئاً نشعر أننا جزء من هذا العالم ...."
المقالة التي تلي مقالة الغيطاني هي لروائي مصري آخر هو محمود الورداني وعنوانها "ضرورة كافكا"، وفيها يكتب: .... وإذا كنت قد أعدت قراءته (يقصد كافكا)في بدايات شبابي المبكرة، إلا أنني أعدت قراءة الكثير مِن أعماله في كهولتي. ولشد ما أدهشني أنه ما زال طازجاً كأنه كتب في أيامنا هذه. كأنه يعيش بيننا ويواجه ما نواجهه. لذلك ما زال هذا النحيل بعينيه المرعوبتين صالحاً لاثارة كل هذا التوجس والخوف مِن آلات العِقاب المنصوبة للجميع، ومِن القضايا التي يكمن تلفيقها للجميع، ومِن هذا العالم الذي يبدو كأنه "ماكيت" العام آخر غامض مختفي في مكانٍ ما ...."
أمّا "المقالة" الثالثة التي اختارها "وطفي" مِن ذلك العدد الخاص من "أخبار الأدب" وعنوانها "كافكا أوّل المحرضين على الكتابة، كتاب وشعراء: بعضُهم أحبه وآخرون كرِهوه لكنّهم اتفقوا على أهميته" فهي (شهادات) أدلى بها كلٌّ من: إبراهيم عبد المجيد وأحمد أبو خنيجر وجمال الجمل وخليل صويلح وشعبان يوسف وصنع الله إبراهيم وعبد الغفار مكاوي ومحمد إبراهيم طه ومحمد المخزنجي ومحمد سليمان ومصطفى ذكرى ومنتصر القفاش ونصّار عبد الله و ياسر عبد اللطيف و يوسف أبو رية ونجيب محفوظ. فإذا أخذنا هنا شيئاً مِن تلك الشهادات، فلنسمع ما قاله الشاعر نصّار عبد الله: ..... عندما قرأتُ كافكا لأول مرة وبوجه خاص: "المحاكمة و "القلعة" و "مستوطنة العقاب" أحسست بأن كوابيسه تتقاطع مع كوابيسي الشخصية ومع كوابيس وطن بأكمله!! لقد كنت، وأظنني لا أزال، ينتابني إحساس بأن حياة الإنسان سواء على المستوى اليومي الفردي أو على المستوى السياسي أو على المستوى الوجودي ماهي إلا مواجهة متصلة لسلسلة من الاتهامات التي يوجهها إليه مِن لا نعرف على وجه التحديد مِن أعطاهم الحق في الاتهام، وأفدح مِن هذا أن أي اتهام لا يمكن أن يُفضي إلى تبرئة قط بل إنه يُفضي إلى اتهام جديد أو إلى محاكمة لا تعرف فيها مَن يُحاكمك على وجه التحديد، ولا مَن أعطاه الحقّ في المحاكمة، والمصير المؤكد في النهاية هو الموت لأن التهمة الحقيقية هي مجرّد الوجود " وهي تُهمة لا سبيل إلى دفعها بحال مِن الأحوال" ...
ألا يستدعي ما يقوله نصّار عبد الله هنا، ما صرخ به صلاح عبد الصبور في قصيدته (الظِّلُّ والصَّليب):
"هذا زمنُ الحقِّ الضائع
لا يعرِفُ فيه مقتولٌ مَن قاتِلُهُ ومتى قتَلَهْ
ورؤوسُ الناسِ على جُثثِ الحيوانات
ورؤوس الحيواناتِ على جُثثِ الناس
فتحسّسْ رأسك ..!!
فتحسّسْ رأسك ..!!"
ويكتب منتصر القفاش: .... وهذه السِّمة هي ما تشدني لأعمال كافكا، القدرة على أن تحكي غير المألوف دون أن تحتاج إلى تبريره وتقديم الأسباب التي أدَّت إليه ودون أن تحتاج إلى تأكيدات مستمرة إلى أنه مفارق لما اعتدنا عليه، وكافكا من الكُتّاب الذين وصلوا بهذه السِّمة إلى أقصى مدىً ممكن، و لا يترك شخصياته تنعم بما تراكمه مِن خبرات على مدار التجربة بل يدفعها أكثر إلى ملاقاة ما لا تتوقعه و لاتقدر على السيطرة عليه ....."
ويكتب مصطفى ذكرى: ..... يترك كافكا دائماً مِن يقرأه دون شبع، كما تستدعي المفاجأة والغرابة والبوليسية والتحوّل، تستدعي أيضاً الخوف، وهنا يكمن أكثر حلول كافكا ثورية وراديكالية على سلفيه العظيمين دوستويفسكي وإدجار بو، هنا الخوف مرحل قليلاً إلى البلادة والخمول، فلا ميلودرامية دوستويفسكي، ولا شاعرية إدجار بو. كان كافكا ينفر مِن الكتابات الجمالية. أتصوّر ماذا لو قرأ داريل وميلر وإدوارد الخراط.
أمّا عبد الغفّار مكّاوي فيقول: ..... إنّنا في حاجة لأن نتعلّم من كافكا التواضع والصدق والبساطة وعدم الإدعاء الذي أصبح سِمة مثقفين عرب كثيرين، كذلك يجب أن نتعلم منه العودة إلى الينابيع القديمة الأصيلة، العودة إلى الأسطورة، والتي اغترف منها كل الأدباء العظام.
كما أننا في حاجة إلى أن نعرف أن الأديب ليس بالضرورة شخصاً مثقفاً أو دودة كتب أو ملزماً بمحاكاة الأدباء العظام. فكافكا وتر لا يرتجف إلا مِن الداخل ولا يهتز من أي رياح تأتيه مِن الخارج.
المحاكمة، في مستوطنة العقاب والقلعة
في مقالته "المحاكمة ... ولكن لماذا لم يقاوم السيد ك؟" يتناول "إبراهيم العريس" رواية كافكا "المحاكمة" فيكتب: على الرغم أن رواية "المحاكمة" لكافكا تعتبر من أشهر روايات هذا الكاتب التشيكي باللغة الألمانية، فإن كافكا لم ينجزها أبداً، حتى وإن كان قد بدأ كتابتها قبل سنوات من رحيله" ثم يضيف بعد أن يحدثنا أن "المحاكمة" هي عن جوزف ك. (بطل الرواية كما هو معروف) الموظف البيروقراطي في شركة و ....، يضيف قائلاً: .... والحقيقة أنه رغم افتراض بعض الباحثين ** بأن كافكا، لو استكمل كتابة روايته هذه، كان سيكون من شأنه أن يقول لنا ماهي تهمة جوزف ك.، فإن الواقع يقول لنا إن الكاتب ما كان سيفعل هذا، وإلا فإن جوهر العمل نفسه سيضيع. لأن ك. ونحن ومُطارِدي ك. الذين قد يكونون مُطارِدينا نحن أيضاً، وقد نكون المُطّارَدين (بفتح الرَّاء) والمُطارِدين بكسر الرَّاء هذه المرَّة)، كل هذا القوم الجميل، لا يمكنه أن يعرف حقيقةالذنب ...."